فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)}.
عطف حالة من أحوال كفرهم لها مساس بما أنعم الله عليهم من النّعمة، فهي معطوفة على جملة {وما بكم من نعمة فمن الله} [سورة النحل: 53].
ويجوز أن تكون حالًا من الضمير المجرور في قوله تعالى: {وما بكم من نعمة} على طريق الالتفات.
ويجوز أن تكون معطوفة على {يشركون} من قوله تعالى: {إذا فريق منكم بربهم يشركون} [سورة النحل: 54].
وما حكي هنا هو من تفاريع دينهم الناشئة عن إشراكهم والتي هي من تفاريع كفران نعمة ربّهم، إذ جعلوا في أموالهم حقًا للأصنام التي لم ترزقهم شيئًا.
وقد مرّ ذلك في سورة الأنعام عند قوله تعالى: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا} [سورة النحل: 136].
إلا أنه اقتصر هنا على ذكر ما جعلوه لشركائهم دون ما جعلوه لله لأن المقام هنا لتفصيل كفرانهم النّعمة، بخلاف ما في سورة الأنعام فهو مقام تعداد أحوال جاهليتهم وإن كان كل ذلك منكَرًا عليهم، إلا أن بعض الكفر أشدّ من بعض.
والجعل: التصيير والوضع.
تقول: جعلت لك في مالي كذا.
وجيء هنا بصيغة المضارع للدّلالة على تجدّد ذلك منهم واستمراره، بخلاف قوله تعالى: {وأقسموا بالله} [سورة النحل: 38]. بأنه حكاية قضية مضت من عنادهم وجدالهم في أمر البعث.
ومفعول {يعلمون} محذوف لظهوره، وهو ضمير {ما}، أي لا يعلمونه.
ومثل حذف هذا الضمير كثير في الكلام.
وما صدق صلة {ما لا يعلمون} هو الأصنام، وإنما عبّر عنها بهذه الصّلة زيادة في تفظيع سخافة آرائهم، إذ يفرضون في أموالهم عطاء يعطونه لأشياء لا يعلمون حقائقها بَلْه مبلغغِ ما ينالهم منها، وتخيّلات يتخيّلونها ليست من الوجود ولا من الإدراك ولا من الصلاحية للانتفاع في شيء، كما قال تعالى: {إن هي إلا أسماء سميّتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس}.
وضمير {تعلمون} [سورة الحجر: 55]. عائد إلى معاد ضمير يجعلون.
ووصف النصيب بأنه {مما رزقناهم} لتشنيع ظلمهم إذ تركوا المنعم فلم يتقرّبوا إليه بما يرضيه في أموالهم مما أمرهم بالإنفاق فيه كإعطاء المحتاج، وأنفقوا ذلك في التقرّب إلى أشياء موهومة لم ترزقهم شيئًا.
ثم وجه الخطاب إليهم على طريقة الالتفات لقصد التهديد.
ولا مانع من الالتفات هنا لعدم وجود فاء التفريع كما في قوله تعالى: {فتمتعوا} [سورة النحل: 55].
وتصدير جملة التهديد والوعيد بالقسم لتحقيقه، إذ السؤال الموعود به يكون يوم البعث وهم ينكرونه فناسب أن يؤكّد.
والقسم بالتاء يختصّ بما يكون المقسم عليه أمرًا عجيبًا ومستغربًا، كما تقدم في قوله تعالى: {قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض} في سورة يوسف (73).
وسيأتي في قوله تعالى: {وتالله لأكيدن أصنامكم} في سورة الأنبياء (57).
فالإتيان في القسم هنا بحرف التاء مؤذن بأنهم يسألون سؤالًا عجيبًا بمقدار غرابة الجُرم المسؤول عنه.
والسؤال كناية عما يترتّب عليه من العقاب، لأن عقاب العادل يكون في العرف عقب سؤال المجرم عمّا اقترفه إذ لعلّ له ما يدفع به عن نفسه، فأجرى الله أمر الحساب يوم البعث على ذلك السَنن الشريف.
والتعبير عنه ب {كنتم تفترون} كناية عن استحقاقهم العقاب لأن الكذب على الله جريمة.
والإتيان بفعل الكون وبالمضارع للدّلالة على أن الافتراء كان من شأنهم، وكان متجددًا ومستمرًا منهم، فهو أبلغ من أن يقال: عمّا تفترون، وعمّا افتريتم.
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)}.
عطف على جملة {ويجعلون لما لا يعلمون نصيبًا مما رزقناهم} [سورة النحل: 56].
هذا استدلال بنعمة الله عليهم بالبنين والبنات، وهي نعمة النّسل، كما أشار إليه قوله تعالى: {ولهم ما يشتهون}، أي ما يشتهون مما رزقناهم من الذّرية.
وأدمج في هذا الاستدلال وهذا الامتنان ذكرُ ضرب شنيع من ضروب كفرهم.
وهو افتراؤهم: أن زعموا أن الملائكة بنات الله من سروات الجنّ، كما دل عليه قوله تعالى: {وجعلوا بينه وبين الجنّة نسبًا} [سورة الصافات: 158].
وهو اعتقاد قبائل كنانة وخزاعة.
والجعل: هنا النسبة بالقول.
و{سبحانه} مصدر نائب عن الفعل، وهو منصوب على المفعولية المطلقة، وهو في محل جملة معترضة وقعت جوابًا عن مقالتهم السيّئة التي تضمّنتها حكاية {ويجعلون لله البنات} إذ الجعل فيه جعل بالقول، فقوله: {سبحانه} مثل قولهم: حاش لله ومعاذَ الله، أي تنزيهًا له عن أن يكون له ذلك.
وإنا قدم {سبحانه} على قوله: {ولهم ما يشتهون} ليكون نصًّا في أن التّنزيه عن هذا الجعل لذاته وهو نسبة البنوّة لله، لا عن جعلهم له خصوص البنات دون الذكور الذي هو أشدّ فظاعة، كما دلّ عليه قوله تعالى: {ولهم ما يشتهون}، لأن ذلك زيادة في التّفظيع، فقوله: {ولهم ما يشتهون} جملة في موضع الحال.
وتقديم الخبر في الجملة للاهتمام بهم في ذلك على طريقة التهكّم.
وما صدق {ما يشتهون} الأبناء الذكور بقرينة مقابلته بالبنات، وقوله تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى} [سورة النحل: 58]، أي والحال أن لهم ذكورًا من أبنائهم فهلّا جعلوا لله بنين وبنات.
وهذا ارتقاء في إفساد معتقدهم بحسب عرفهم وإلا فإنه بالنسبة إلى الله سواء للاستواء في التولّد الذي هو من مقتضى الحدوث المنزّه عنه واجب الوجود.
وسيخصّ هذا بالإبطال في قوله تعالى: {ويجعلون لله ما يكرهون} [سورة النحل: 62].
ولهذا اقتصر هنا على لفظ البنات الدالّ على الذّوات، واقتصر على أنهم يشتهون الأبناء، ولم يتعرّض إلى كراهتهم البنات وإن كان ذلك مأخوذًا بالمفهوم لأن ذلك درجة أخرى من كفرهم ستخصّ بالذّكر.
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)}.
الواو في قوله تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى} يجوز أن تكون واو الحال.
ويجوز أن تكون الجملة معترضة والواو اعتراضية اقتضى الإطالة بها أنها من تفاريع شركهم، فهي لذلك جديرة بأن تكون مقصودة بالذكر كأخواتها.
وهذا أولى من أن تجعل معطوفة على جملة {ولهم ما يشتهون} [سورة النحل: 57]. التي هي في موضع الحال، لأن ذلك يفيت قصدها بالعدّ.
وهذا القصد من مقتضيات المقام وإن كان مآل الاعتبارين واحدًا في حاصل المعنى.
والتّعبير عن الإعلام بازدياد الأنثى بفعل {بشر} في موضعين لأنه كذلك في نفس الأمر إذ ازدياد المولود نعمة على الوالد لما يترقّبه من التأنّس به ومزاحِه والانتفاع بخدمته وإعانته عند الاحتياج إليه، ولما فيه من تكثير نسل القبيلة الموجب عزّتها، وآصرة الصهر.
ثم إن هذا مع كونه بشارة في نفس الأمر فالتّعبير به يفيد تعريضًا بالتهكّم بهم إذ يعُدون البشارة مُصيبة وذلك من تحريفهم الحقائق.
والتّعريض من أقسام الكناية والكناية تجامع الحقيقة.
والباء في {بالأنثى} لتعدية فعل البشارة وعلّقت بذات الأنثى.
والمراد؛ بولادتها، فهو على حذف مضاف معلوم.
وفعل {ظل} من أفعال الكون أخوات كان التي تدلّ على اتّصاف فاعلها بحالة لازمة فلذلك تقتضي فاعلًا مرفوعًا يدعى اسمًا وحالًا لازمًا له منصوبًا يدعى خبرًا لأنه شبيه بخبر المبتدإ.
وسمّاها النّحاة لذلك نواسخ لأنها تعمل فيما لولاها لكان مبتدأً وخبرًا فلما تغيّر معها حكم الخبر سمّيت ناسخة لرفعه، كما سميت {إن} وأخواتها و{ظنّ} وأخواتها كذلك.
وهو اصطلاح تقريبي وليس برشيق.
ويستعمل {ظَلّ} بمعنى صار.
وهو المراد هنا.
واسوداد الوجه: مستعمل في لون وجه الكئيب إذ ترهقه غبرة، فشبّهت بالسّواد مبالغة.
والكظيم: الغضبان المملوء حنقًا.
وتقدم في قوله تعالى: {فهو كظيم} في سورة يوسف (84)، أي أصبح حنقًا على امرأته.
وهذا من جاهليتهم الجهلاء وظلمهم، إذ يعاملون المرأة معاملة من لو كانت ولادة الذكور باختيارها، ولماذا لا يحنق على نفسه إذ يلقح امرأته بأنثى، قالت إحدى نسائهم أنشده الأصمعي تذكر بعلها وقد هجرها لأنها تلد البنات:
يَغْضَبُ إنْ لم نلد البنينا ** وإنما نُعطي الذي أعطينا

والتّواري: الاختفاء، مضارع واراه، مشتقّ من الوراء وهو جهة الخلف.
و{مِن} في قوله تعالى: {من سوء ما بشر به} للابتداء المجازي المفيد معنى التعليل، لأنه يقال: فعلت كذا من أجل كذا، قال تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} [سورة الأنعام: 151]، أي يتوارى من أجل تلك البشارة.
وجملة {أيمسكه} بدل اشتمال من جملة {يتوارى}، لأنه يتوارى حياء من الناس؛ فيبقى متواريًا من قومه أيامًا حتى تُنسى قضيّته.
وهو معنى قوله تعالى: {أيمسكه} إلخ.، أي يتوارى ويتردّد بين أحد هذين الأمرين بحيث يقول في نفسه: أأمسكه على هُون أم أدسّه في التراب.
والمراد: التردّد في جواب هذا الاستفهام.
والهُون: الذلّ.
وتقدم عند قوله تعالى: {فاليوم تجزون عذاب الهون} في سورة الأنعام (93).
والدسّ: إخفاء الشيء بين أجزاء شيء آخر كالدفن.
والمراد: الدّفن في الأرض وهو الوأد.
وكانوا يَئِدون بناتهم، بعضُهم يئد بحدثان الولادة، وبعضهم يئد إذا يفعت الأنثى ومشت وتكلّمت، أي حين تظهر للناس لا يمكن إخفاؤها.
وذلك من أفظع أعمال الجاهلية، وكانوا متمالئين عليه ويحسبونه حقًّا للأب فلا ينكرها الجماعة على الفاعل.
ولذلك سمّاه الله حكمًا بقوله تعالى: {ألا ساء ما يحكمون}.
وأعلن ذمّهُ بحَرف {ألاَ} لأنه جور عظيم قد تَمَالأُوا عليه وخوّلوه للناس ظلمًا للمخلوقات، فأسند الحكم إلى ضمير الجماعة مع أن الكلام كان جاريًا على فعل واحد غير معيّن قضاء لحقّ هذه النكتة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)}.
أي: الذين يكفرون بالله ويتخذون الأصنام والشركاء، يجعلون لها نصيبًا.
وقول الحق سبحانه: {لاَ يَعْلَمُونَ} [النحل: 56].
ما العلم؟